قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ:
الكتابُ هو الجليس الذي لا يُطريك، والصديق الذي لا يُغْريك، والرفيق الذي لا يَمَلُّك، والمستميح الذي لا يَسْتِريثُك، والجار الذي لا يَستبْطِيك، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالمَلَق، ولا يعاملك بالمَكْر، ولا يَخْدعك بالنّفاق، ولا يحتال لك بالكذب.
والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمْتاعك، وشحذ طِباعك، وبسط لسانك، وفخّم ألفاظك، وعمَّر صدرك، ومنحك تعظيم العوامِّ وصداقة الملوك، وعرفت به في شهر، ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر، مع السلامة من الغُرْم، ومن كدّ الطلب، ومن الوقوف بباب المُكتَسِب بالتعليم، ومن الجلوس بين يدي من أنت أفضل منه خُلُقا، وأكرم منه عِرْقا، ومع السلامة من مُجالسة البُغَضاء ومُقارنة الأغبياء.
والكتاب هو الذي يُطيعك بالليل كطاعته بالنهار، ويُطيعك في السفر كطاعته في الحضر، ولا يَعتلّ بنوم، ولا يَعتريه كَلال السهر.
وهو المعلّم الذي إن افتقرت إليه لم يُخْفِرْك، وإن قطعت عنه المادّة لم يقطع عنك الفائدة، وإن عُزِلْتَ لم يَدَعْ طاعتك، وإن هبّت ريح أَعاديك لم يَنقلب عليك، ومتى كنتَ منه متعلّقا بسبب أو معتصما بأدنى حبل، كان لك فيه غِنىً من غيره، ولم تَضْطَرَّك معه وَحْشةُ الوَحْدةِ إلى جليس السُّوء.
ولو لم يكن من فضله عليك، وإحسانه إليك، إلّا منعُه لك من الجلوس على بابك، والنظر إلى المارّة بك، مع ما في ذلك من التعرُّض للحقوق التي تلزم، ومن فضول النظر، ومن عادة الخَوْض فيما لا يعنيك، ومن ملابسة صِغار الناس، وحضور ألفاظهم الساقطة، ومعانيهم الفاسدة، وأخلاقهم الرّديّة، وجهالاتهم المذْمومة، لكان في ذلك السلامةُ، ثم الغنيمةُ، وإحرازُ الأصل، مع استفادة الفرع.
وقال أبو عبيدة قال المهلّب لبنيه في وصيّته: يا بَنِيَّ لا تقوموا في الأسواق إلّا على زرّاد أو ورّاق.
وحدّثني صديق لي قال: قرأت على شيخ شاميّ كتابا فيه من مآثر غَطَفان فقال: ذهبت المكارم إلّا من الكتب!
وسمعت الحسن اللؤلؤي يقول: غَبَرْتُ أربعين عاما ما قِلت ولا بِتّ ولا اتّكأت إلّا والكتاب موضوع على صدري.
وقال ابن الجهم: كنت إذا غَشِيَني النُّعاس في غير وقت نوم -وبئس الشيءُ النومُ الفاضل عن الحاجة- تناولت كتابا من كتب الحِكَم، فأجد اهتزازا للفوائد، وأرْيَحِيَّةً للظّفَر.
وإذا استحسنت الكتاب واستجدته، ورجوت منه الفائدة، فإنك تراني ساعة بعد ساعة وأنا أنظر كم بقي من ورقه مخافة استنفاده!
وإن كان الكتاب عظيم الحجم كثير الورق، كثير العدد، فقد تمّ عيشي وكمُل سروري.
وما قرأت قطّ كتابا كبيرا فأخْلاني من فائدة، وما أُحصي كم قرأت من صِغار الكتب فخرجت منها كما دخلت!
المصدر:
الحيوان للجاحظ تحقيق عبد السلام هارون.
طبعة البابي الحلبي 1965.
ج 1 ص 50-54 (بتصرف).
اللغة
يُطْريك: يبالغ في الثناء عليك مداراةً ومجاملةً
يُغْريك: يُحرِّضك ويُفسد عليك
المُستَميح: طالب المعروف
لا يَسْتَريثُك: لا يستبطئ معروفك
لا يَستبْطِيك: لا يستعجلك ولا يُلحُّ عليك
المَلَق: النِّفاق
شَحَذ طِباعك: جعلها حادّة سريعة الفهم
الغُرم: ما يصيب الإنسان من نوائب وآفات
كدُّ الطّلب: معاناته وشدته
لا يعْتلُّ: لا يعتذر
هبّتْ ريح الأعادي: كناية عن تغلبهم وتمكُّنهم
لا يَعتريه: لا يُصيبه
كَلال السّهر: تعبه وإرهاقه
لم يُخْفِرك: لم يغدُر بك
الورّاق: ناسخ الكتب وبائعها
الزرّاد: صانع الدُّروع
أرْيَحِيّة للظّفَر: الأريحية: الارتياح والنشاط لفعل المعروف
والظَّفَرُ: نيل المطلوب
استجدتُ كتابا: استحسنته ورضيته
مخافة استنفاده: مخافة انتهائه
غبرتُ: مكثتُ
قِلت: نِمتُ وسط النهار
غَشِيَني النُّعاس: هجم عليّ.